المراد من كلمة (مدارس التفسير)
المراد بمدارس التفسير معنى أشمل من بناء يحصل فيه التعليم وهو المنهج العلمي (1) المتبع عند الرجال الذين ينتسبون إليها .
وقد عبر الزرقاني عن هذه المدارس بالطبقات فقال: طبقة أهل مكة ، طبقة أهل المدينة ، طبقة العراق (2) .
مدرسة مكة :
تعتبر هذه المدرسة هي المدرسة الأم حيث بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدين يقدم للعقل مادة تفكيره ويرسم له المنهج الصحيح بعد ما يفك أسره من الجمود .
وبحكم النشأة الأولى للإسلام على أرض مكة وما نشأ في الفترة المكية من مناقشات وما أثير من مسائل فمن الطبيعي أن تُوجد هذه البيئة المكية حركة
علمية جديدة وينفتح العقل على أمور كان عنها في غفلة (3) .
ولم تهمل مكة بعد الفتح بل ترك النبي صلى الله عليه وسلم بها معاذ بن جبل يعلم ، وباعتبارها حرماً آمناً فقد جذبت إليها عدداً من الصحابة الذين
آثروا العزلة (4) .
أستاذ مدرسة مكة وأشهر تلاميذه:
أستاذها عبد الله بن عباس ، وكان من شيوخه (سيدنا عمر بن الخطاب وأبي بن كعب وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة ) (5) وأشهر تلاميذه وهم من التابعين: مجاهد وعكرمة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير (6) .
مدرسة المدينة:
بعد أن تحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نزحت الحركة العلمية برجالها إلى بلد الهجرة مخلفة وراءها آثاراً لا تمحى ، ومستقبلة أمامها
كثيراً من أحكام التشريع التي أضيفت إلى ما نزل سابقاً في العقائد وعلى ساحة هذه الأرض الجديدة اكتمل الوحي والدين (7) .
وبالتفاف الصحابة الكرام حول نبيهم صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة في حياته ، وبعد انتقاله قرروا مجاورته أدى ذلك إلى تدعيم مركز المدينة
الثقافي والديني .
أستاذ مدرسة المدينة وأشهر تلاميذه:
أستاذها سيدنا أُبَيِّ بن كعب الذي كانت له الشهرة أكثر من غيره من الصحابة ، وأشهر تلاميذه: زيد بن أسلم وأبو العالية ومحمد بن كعب القرظي ،
وهؤلاء منهم من أخذ عن سيدنا أُبَيٍّ مباشرة ومنهم من أخذ عنه بالواسطة (
.
وهاتان المدرستان (مكة والمدينة) يعبر عنهما بمدرسة الحجاز .
أبرز العلوم التي انتشرت في مدرسة الحجاز:
وأبرز العلوم التي انتشرت في مدرسة مكة ومدرسة المدينة هي القرآن وعلومه وتفسيره (9)
المنهج والطريقة لمدرسة الحجاز:
التزم رجال مدرسة الحجاز (مكة والمدينة) منهجاً قويماً لا يتغير عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تناقله التابعون عن الصحابة ومن
التابعين إلى تابعيهم .
ويتلخص هذا المنهج إجمالاً في التمسك بظاهر النصوص مع شيء من التأويل واعتناق الكتاب والسنة والاحتكام إليهما عند وجود النص وإلا فالاجتهاد
(10) .
واتسم منهجها بالواقعية والتحليل والتقسيم (11) .
لماذا لم تنل مدرسة الحجاز (مكة والمدينة) اهتماماً كبيراً من الدارسين ؟ والإجابة على هذا السؤال من السهولة بمكان إذ يرجع السر في ذلك إلى سير الباحثين الإسلاميين وراء المستشرقين الذين اهتموا بمدرسة العراق ، وأهملوا مدرسة الحجاز عن عمد ليدّعوا عجز العرب عن طلب العلم وليقولوا أن العرب عالة على أبناء البلاد المفتوحة التي سبقت العرب بالتمدن من أبناء فارس والروم (12) .
مدرسة البصرة :
تلقى رجال هذه المدرسة العلوم الإسلامية من مصدرين:
أحدهما محلي في البصرة والآخر عن طريق مدرسة المدينة ، أما المحلي فكان على يد أبي موسى الأشعري ، وقد رحل إليها سيدنا أنس بن مالك والحسن البصري وابن سيرين بعد أن كانوا في المدينة .
أما الطريق الثاني (عن طريق مدرسة المدينة) فكان يتم بواسطة رحيل طلاب العلم إلى المدينة ليأخذوا عن علمائها ثم يعودوا إلى موطنهم فينشروا ما
تعلموه .
وفي كلا المصدرين مدرسة المدينة هي صاحبة هذا الفضل على تلاميذ البصرة (13) .
أستاذ مدرسة البصرة وأشهر تلاميذه:
أستاذها الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس ، وأشهر تلاميذه الحسن البصري وقتادة وابن سيرين .
المنهج والطريقة لمدرسة البصرة :
اتسمت الطريقة التي يعالجون بها العلم بعلامات معينة منها:
الاهتمام بالتحليل والميل إلى الواقعية والتركيز على النقد (14) .
مدرسة الكوفة:
أستاذ مدرسة الكوفة وأشهر تلاميذه:
أستاذها سيدنا عبد الله بن مسعود ، وأشهر تلاميذه علقمة بن قيس ومسروق ومرة الهمداني وعامر الشعبي (15) والحارث بن قيس وعمرو بن شرحبيل وعبيدة والأسود (16) .
مدرسة الكوفة ومنهجها:
اتخذ الأساتذة طريقة " التحفيظ والتسميع في القرآن الكريم خاصة " وهي الطريقة المقبولة التي لا يعتريها عيب مع كتاب الله لأنه لا يصح أن يعتمد
التلميذ فيه على نفسه خشية الزلل ، وليس فيها كبت للقدرات والمواهب إذا ما اقتصرت على هذا الموضوع (موضوع التحفيظ والتسميع في القرآن الكريم خاصة) .
أما في غيره من العلوم فإنها تركت للتلميذ حريته في اختيار المادة والموضوع الذي يريد دراسته، ويتناسب مع مواهبه واستعداده مع التأكد من صدق
اختياره وميوله ، ومع التوجيه والشرح والإلقاء من الأستاذ والسؤال والمراجعة والفهم الخاص من التلميذ ؛ فلم تترك للتلميذ مطلق الحرية في الاختيار والفهم ، ولم تسلبه استعداده
بالكلية .
وتحقيقاً لهذا فإنهم لجؤوا إلى انتقاء التلاميذ حسب صلاحيتهم للعلم عامة ، ولفرع من الفروع بصفة خاصة وقد يرفض الأستاذ تلميذاً لعدم صلاحيته في مجال العلوم النظرية ويدلنا على هذا قول الحارث بن سويد ( إن كان الرجل ليتبعنا إلى عبد الله بن مسعود – أستاذ مدرسة الكوفة الأول – فيما يقبله يرده )(17) لعدم صلاحيته للتلقي ولا يتم هذا على وجه الدقة إلا بخبرة الأستاذ وفراسته (18) .
فمدرسة العراق - الكوفة والبصرة - طريقتها الإكثار من تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد (19) وذلك لأسباب ثلاثة:
الأول: تأثير سيدنا عبد الله بن مسعود فيهم الذي يعتد بالرأي حيث لا نص .
الثاني: أن الحديث كان في العراق قليلاً وكان أكثر رواة الحديث في الحجاز ؛ لأنه موطن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة .
الثالث: أن العراق بلد متمدن تأثر إلى درجة كبيرة بالمدنية الفارسية واليونانية .
مميزات مدرسة الرأي:
1- كثرة تفريعهم الفروع .
2- قلة روايتهم للحديث ، واشتراطهم فيما يؤخذ به من الحديث شروطاً لا يسلم معها إلا القليل (20) .
مدرسة الشام :
أستاذ مدرسة الشام وأشهر تلاميذه:
أستاذها الصحابي الجليل أبو الدرداء عويمر بن عامر رضي الله عنه على اختلاف في اسمه واسم أبيه (21) ، وأشهر تلاميذه: أبو إدريس الخولاني
وعلقمة بن قيس وسويد بن غفلة وجبير بن نفير وزيد بن وهب .
مدرسة الشام ومنهجها :
وصف الأستاذ محمد كرد علي رجال مدرسة الشام (22) بأن لديهم استقلال الفكر ، وتقتضي صفة استقلال الفكر التعمق في الذاتية والتحمس لها وتدعيمها ، مما ينتج نبذ التقليد وعدم التسليم بفكرة الغير دون تمحيصها وهو ما يثمر التعويل على الفهم الصحيح للنص ، والميل الشديد نحو الاجتهاد والحرية الفكرية في كل ما يرِد على الذهن ويؤدي هذا إلى تجديد الفكر.
ومن هنا فإن السمة العامة لطريقة التفكير في هذه المدرسة تغلب عليها الذاتية وإن كنت أؤكد أن هذه السمة حكمت بمعيار ثابت لدى العلماء وهو
الالتزام بالكتاب والسنة دون الخروج عنهما بالعقل (23) .
مدرسة مصر:
لما فتح المسلمون مصر أقبل العرب إليها وأصبحت مصر منذ دخول العرب إليها مركزاً علمياً في المملكة الإسلامية (24) .
أستاذ مدرسة مصر وأشهر تلاميذه:
أستاذها الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، وأشهر تلاميذه: يزيد ابن أبي حبيب (25).
الترابط بين هذه المدارس :
ولعلك تلحظ قوة الترابط بين هذه المدارس من كون أساتذتها كلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذوا عنه ، وأن أستاذ مدرسة مكة سيدنا عبد الله بن عباس كان أحد شيوخه أستاذ مدرسة المدينة سيدنا أبي بن كعب ، والفضل الأول والأخير على مدرسة البصرة إنما يعود لمدرسة المدينة ، وأيضاً سيدنا عبد الله بن عباس أستاذ مدرسة مكة قبل أن يأتي إلى الحجاز كان في البصرة حيث
غادرها إلى الحجاز سنة 40 هـ .
بقلم : محمد الخلف العبد اللهالمصادر والمراجع
1- الإصابة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني دار الجيل بيروت 1992م الطبعة الأولى تحقيق: علي محمد البجاوي .
2- التبيان في علوم القرآن محمد علي الصابوني دار الجيل 2001 م .
3- التصوف الإسلامي في ميزان الكتاب والسنة عبد الله يوسف الشاذلي .
4-التفسير العلمي للقرآن في الميزان رسالة دكتوراه أحمد عمر أبو حجر دار قتيبة الطبعة الأولى
5- التفسير والمفسرون د. محمد حسين الذهبي .
6- التفسير والمفسرون محمد هادي معرفة الطبعة الأولى 1418 هـ مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة .
7- طبقات ابن سعد محمد بن سعد دار صادر بيروت .
8- فجر الإسلام أحمد أمين الهيئة المصرية العامة للكتاب .
9- مناهل العرفان محمد عبد العظيم الزرقاني دار المعرفة الطبعة الثانية .
10- الوحي والقرآن عبد الحميد إبراهيم سرحان الهيئة المصرية العامة .
--------------------------------
(1) المنهج العلمي: الطريقة التي تعالج بها العلوم ليتوصل الباحث إلى نتائج مرضية (التصوف ج1ص132)
(2) مناهل العرفان ج1 ص 438- 443 (3) انظر التصوف الإسلامي ج1 ص57
(4) انظر التصوف الإسلامي ج1 ص59 (5) التبيان في علوم القرآن ص105
(6) التفسير والمفسرون ج1 ص101 (7) التصوف الإسلامي ج1 ص58
(
التفسير والمفسرون ج1 ص114 ، التفسير العلمي ص42
(9) التصوف الإسلامي ج1ص60 (10) التصوف الإسلامي ج1ص61-62.
(11) التصوف الإسلامي ج1ص63 .
(12) انظر التصوف الإسلامي ج1ص61 . (13) التصوف الإسلامي ج1ص78 باختصار .
(14) انظر التصوف الإسلامي ج1ص79 . (15) انظر التفسير والمفسرون ج1 ص118 - 123 .
(16) انظر فجر الإسلام ص 292
(17) طبقات ابن سعد ج6 ص167 . أي كان الرجل يأتي إلى مجلس سيدنا عبد الله
بن مسعود يقبل على العلوم فيرده سيدنا ابن مسعود لعدم صلاحيته للتلقي .
(18) التصوف الإسلامي ج1ص133 . (19) التفسير والمفسرون ص118 .
(20) انظر فجر الإسلام ص382- 384 . (21) الإصابة ج4 ص747 .
(22) كما ينقل ذلك صاحب كتاب التصوف الإسلامي عن كتاب خطط الشام ج 5 ص55 لمحمد كرد علي .
(23) انظر التصوف الإسلامي ج1 ص188-189 .
(24) انظر فجر الإسلام ص300- 301 باختصار .
(25) فجر الإسلام ص 301- 302